إنجازات وحدود دور الترجمة في النسيج الفكري العربي قديما وحديثا
قراءة لأطروحة نيل شهادة الدكتوراه بعنوان:
Los alcances y los límites de la traducción en el tejido del pensamiento árabe en sus fases clásica y moderna
تحت إشراف الدكتورة مونيكا ريوس بينييس، ومن تقديم الباحث عبد الله تكرامت الكبايش بجامعة برشلونة في 18 مارس 2021.
تشكل إنجازات وحدود دور الترجمة في النسيج الفكري العربي قديما وحديثا الموضوع الأساسي لهذا البحث. ذلك أنه في كلتا الفترتين لعبت الترجمة دورا رئيسا في نقل الأفكار وفي وضع اللبنات الأساسية للفكر العربي عموما. لا يتعلق الأمر فقط بنقل النصوص من لغة إلى لغة وفقا للمفهوم التقليدي للترجمة، بل بحركة فكرية انخرطت أولا في مشروع التدوين الثقافي العربي خلال العصر الكلاسيكي، الذي يمتد من القرن الثامن الميلادي إلى القرن العاشر، وثانيا في بناء النهضة الثقافية العربية خلال العصر الحديث. ولا شك أن العديد من العوامل الأيديولوجية والسياسية والعقدية واللغوية قد ساهمت في إنجاز المشروعين الفكريين وجعلت من الأول أنموذجا للحياة الثقافية لدى الشعوب الناطقة بالعربية منذ فجر الإسلام إلى العصر الحديث. إذ أن نقل علوم الأوائل قديما أو ترجمة التطور العلمي المنجز في أوروبا حديثا إلى اللغة العربية كان يخضع وجوبا للرقابة الثقافية الممارسَة من طرف رواد السلف. بالإضافة إلى ذلك، يلاحظ أن بناء الثقافة العربية الإسلامية ساهمت فيه أيضا الثقافات الأخرى التي لعبت دور الوساطة اللغوية في الترجمة كالسريانية والفارسية في العصر القديم أو الفرنسية والتركية العثمانية في العصر الحديث. ووسط هذه التجاذبات الناتجة عن التعدد الثقافي، بزغت ظواهر ترجمية تستهدف الأصول لتعريبها أو لتحويلها إلى مكتسبات معرفية. كما ظهرت تيارات فكرية جديدة، كالاستشراق الأوروبي والاستغراب العربي، جعلت من الترجمة عنصرا براغماتيا يُعتمد عليه لتحديد رموز الشرق والغرب. باتباعنا لمنهجية التحليل النقدي، تسعى هذه الأطروحة إلى تقديم دراسة مفصلة لهذا السياق الترجمي المعقد والوقوف عند تطورات النسيج الفكري العربي الإسلامي واتجاهاته قديما وحديثا، وما لعبه من دور في ذلك التراث الثقافي للسلف خلال أبرز مراحله. ومن ثم وضعنا نصب أعيننا تحقيق الأهداف الخمسة الأساسية التي نسردها على النحو التالي.
أولا: تحديد اتجاهات الفكر العربي الإسلامي قديما انطلاقا من منظور ترجمي. ذلك أن هذه الاتجاهات انقسمت إلى تيارين إيديولوجيين أساسيين. الأول يمثله المحافظون الذين استحوذوا على الموروث الثقافي للسلف، بما في ذلك الإنتاج الترجمي الذي تراكم خلال عصر التدوين، والثاني يمثله المعتدلون الذين يتطلعون إلى اكتشاف مناهج جديدة للحصول على المعرفة دون التقيد بإطار ثقافة السلف أو بإطار الثقافة المنقولة
ثانيا: تحليل دور الترجمة في النسيج الفكري العربي قديما وحديثا انطلاقا من كلام المترجمين الوارد في المقدمات وفي هوامش ترجماتهم. ولقد أثار انتباهنا في هذا الكلام استحضار الهوية الثقافية قبل التصدي لأي مشروع ترجمي، سواء من قبل المترجمين السريان والفرس قديما، أو الشاميين والمصريين حديثا
ثالثا: معرفة إلى أي مدى أصبحت حركة الترجمة إلى العربية، القائمة على وساطة اللغات الأخرى، تيارا فكريا ضمن مشروع البناء الثقافي الذي تم تشييده في العصر الوسيط، وضمن المشروع الإصلاحي الذي تم إنجازه في العصر الحديث. بالفعل ترجمة علوم الأوائل إلى العربية قبل أن تكون مباشرة كانت تعتمد على الوساطة اللغوية للسريانية والفارسية في العصر القديم، كما كانت تعتمد على الوساطة الفرنسية والتركية العثمانية لنقل التجديد العلمي المنجز في أوروبا خلال عصر الأنوار. ولا شك أن هذا الاتصال بين اللغات ولّد اتصالا بين الأفكار والأشخاص المنتمين لمختلف الثقافات للمشاركة في المناظرات الكبرى التي تُنظم حول الترجمة سواء في بيت الحكمة ببغداد بين المترجمين السريان والفرس والفقهاء خلال عصر التدوين، أو بمدرسة الألسن بالقاهرة بين شيوخ الأزهر والطلاب المصريين العائدين من أوروبا والأساتذة الإيطاليين والفرنسيين والأتراك
رابعا: تحديد مفهوم الترجمة والتعريب وما طبيعة العلاقة بين الحركتين اللتين ساهمتا بقدر كبير في نقل العديد من الأعمال العلمية والفلسفية والأدبية والفنية من الفرنسية إلى العربية. وهذه الازدواجية التي كادت أن تخلق نوعا من الترادف بين الترجمة والتعريب على مستوى المفهوم أدت إلى ظهور فريقين من المترجمين: الأول اختار أن يُعرِّب للانفلات من التبعية للترجمة ومن الانزلاق نحو التغريب وبالتالي الحفاظ على الهوية الثقافية، بينما الثاني اختار أن يترجم مع الأخذ بعين الاعتبار بعضا من قواعد التعريب، لاسيما تلك المرتبطة ارتباطا وثيقا بالهوية اللغوية والدينية، دون أن تكون عملية التعريب هدفا أساسا في المشروع الترجمي برمته
خامسا: توضيح دور ثقافة السلف في إنجازِ المشروعين الترجميين قديما وحديثا. ذلك أن هذه الثقافة استطاعت أن تقاوم كل الإيديولوجيات التي انبثقت عن التطور الفكري العربي الإسلامي وما للترجمة من دور في هذا التطور. كما استطاع السلف أن يؤثر في نمط عيش معظم الشعوب العربية الإسلامية ليس فقط في العصور الوسطى بل حتى في العصر الحديث، لأن هذه الثقافة استطاعت كذلك أن تحول المنجز الفكري والترجمي المتراكم لصالحها
انطلاقا من هذه الأهداف المسطرة في البداية اتضح لنا أن حركة الترجمة إلى العربية في العصور الوسطى، التي تناولناها بالدرس والتحليل في الجزء الأول من البحث، كان لها تأثير لا يستهان به في بناء صرح الثقافة العربية الإسلامية، فضلا عن كونها قد استطاعت أن تجد لنفسها مكانا داخل ثقافة السلف. فخلال عصر التدوين قرر الخلفاء العباسيون تدوين الثقافة التي ستحدد ماضي وحاضر ومستقبل دولتهم. إذ تم تدوين عدد كبير من الموارد اللغوية العربية التي ساهمت إلى حد كبير في نقل الثقافة العربية الشفهية لما قبل الإسلام والتي تناولت في معظمها أيام العرب. وبعد ذلك دُوِّن الفقه والحديث لتسهيل تفسير النصوص القرآنية. وعلى نفس المنوال، نُقلت إلى العربية علوم الأوائل للحفاظ على التعددية في ظل الدولة العباسية. وقبل أن تكون الترجمة مباشرة من اللغة الإغريقية إلى العربية كان النقل يعتمد أساسا على الوساطة اللغوية للسريانية والفارسية. وداخل هذه الوساطة اللغوية نُسج الفكر العربي الإسلامي، مما أدى إلى حدوث عملية مثاقفة كبرى غير مسبوقة خلال العصور الوسطى
ولا شك أن هذه الوساطة في الترجمة ساهمت إلى حد كبير في بناء النسيج الفكري العربي قديما. إذ أدت إلى ظهور المناهج والنظريات الأولى للترجمة في الثقافة العربية. وكنماذج يمكن التمييز بين ابن المقفع، من خلال الأدب الكبير والأدب الصغير وكليلة ودمنة، والجاحظ، من خلال كتاب الحيوان؛ وحنين بن إسحاق من خلال رسالته…). في هذا السياق اعتُبرت الترجمة أداة تساعد المترجمين ورعاة الترجمة على إعادة سياق النصوص والمصادر وتحويلِها إلى مكتسبات ثقافية. إلا أن هذا الإشعاع الترجمي سرعان ما أدى إلى ظهور جدل كبير بين السلف والخلف حول سبل الحصول على المعرفة. ذلك أن الترجمة في وقت من الأوقات تجاوزت حدود الاندماج المسطرة لها في ثقافة السلف التي حاولت دوما التحكم في دوالب الفكر العربي الإسلامي خلال عصر التدوين. مما أدى إلى ظهور صراع بين المترجمين السريان والفرس من جهة، وفقهاء السلف من جهة أخرى. ولابد أن نستحضر هنا المناظرة الكبرى التي رواها التوحيدي بين متى بن يونس، كبير المترجمين السريان والفقيه اللغوي الفارسي أبو سعيد السيرافي. في الواقع الاصطدام بين الشخصيتين يعكس الاصطدام بين الفقه والترجمة، بين بلاغة الفرس وركاكة السريان، بين بلاغة العربية وركاكة الترجمة. كما يعكس أيضا الاصطدام بين المنطق الإغريقي المحفِّز للترجمة والفكر العربي الإسلامي، الـمُتلقّي الرئيسي للثقافة الترجمية. وهذا الاصطدام تطور فيما بعد إلى صراع بين المفكرين والفلاسفة المسلمين من جهة، وبين الدين والفلسفة من جهة أخرى. ولعل من أكبر الصراعات التي سجلها التاريخ في هذا المضمار هو ذلك الهجوم الذي قاده الغزالي ضد الفارابي وابن سينا، أو تلك المناظرة الكبرى التي حصلت بين الغزالي وابن رشد من خلال كتابي تهافت الفلاسفة وتهافت التهافت. صحيح أنه في العصر الكلاسيكي لم تكن ثقافة السلف تسعى إلى الرفض الكلي للثقافة الترجمية، وبالتالي رفض الفلسفة اليونانية عن طريق رفض الوساطة الترجمية التي قام بها السريان والفرس، بل كانت تسعى إلى أسلمة الفلسفة الإغريقية بعد أسلمة الوساطة الترجمية السريانية والفارسية على حد سواء. وبعد عملية الأسلمة هذه، تأتي عملية الأوربة الناجمة عن نقل المنجز الترجمي العربي إلى اللاتينية مباشرة، أو عبر الوساطة العبرية انطلاقا من القرن الثالث عشر
وبعد ما ينيف عن ستة قرون، لاحظنا خلال القرن التاسع عشر كيف استوفى المسار الترجمي دورته لينتقل من الأوربة إلى التعريب. ويظهر أنه في خضم هذه الدينامية، بإمكان ثقافة ما أن تترجم نفسها في ظل ثقافة أخرى دون أن تدرك أنها كانت في حقبة من الحقب هدفا أساسا للترجمة. كما يمكنها أن تقوم بإعادة بناء صورتها المتجسدة في النماذج الثقافية للحضارات الأخرى التي قادت مشاريع ترجمية كبرى. وبالتالي ستتمكن من استرجاع بعض ملامح هويتها التي فقدتها بسبب التحولات التي طرأت على نمط عيش شعوبها. وهذه هي الفكرة الأساسية التي حاول الطهطاوي أن يعالجها في رحلته تخليص الإبريز في تلخيص باريس لتبرير المشروع الترجمي الكبير الذي كان يؤسس له مدة إقامته بباريس، رُفقة البعثة الطلابية المصرية، من خلال سعيه الحثيث إلى خلق نوع من التقارب بين ثقافة السلف والثقافة الترجمية الحديثة
فخلال المشروع الإصلاحي العثماني الذي وصلت أصداؤه إلى الإيالات العربية العثمانية، ظهرت حركتي الاستغراب العثماني والعربي اللتين انكبتا على دراسة الغرب ونقل علومه المتطورة إلى الشرق، وجعلتا من الترجمة وسيلة ناجعة لنقل الابتكار العلمي الأوروبي إلى إسطنبول وإلى القاهرة كمرحلة أولى، بناء على منهاجي التتريك والتعريب الناجمين عن المد القومي التركي والعربي خلال القرن التاسع عشر. إلا أن هذا الاستغراب بشقيه نجح على مستوى الإنتاج الترجمي وأخفق على مستوى التنظير لنقل التنوير الأوروبي إلى الثقافة العربية. إذ تحول إلى بضاعة ثقافية معروضة للاستهلاك المباشر لكونها لم تأخذ بعين الاعتبار التحولات الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية التي أحدثتها حركة التنوير بأوروبا. مما أدى إلى ظهور جدل كبير بين المترجمين المصريين على وجه التحديد، حول مسألة التعريب والترجمة، الذي انتهى بخلق نوعٍ من التوازن بين ثلاث شخصيات: الشيخ والسياسي والمفكر-المترجم
وبالتالي أضحت الترجمة والتعريب خلال عصر النهضة عمليتين متوازيتين، متقاطعتين، متشابهتين، متنافرتين، متقاربتين، متباعدتين، تشتركان في عملية نقل العلوم الحديثة من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية. إذ أدرك المفكرون المترجمون حجم العلاقة المعقدة بين عمليتي الترجمة والتعريب، لاسيما خلال مراحل المثاقفة الكبرى الناجمة عن المراحل الانتقالية، وما لها من انعكاسات على السياسة اللغوية المتبعة في البلدان العربية. إن التعريب والترجمة عمليتان تختلفان في المناهج وفي آليات العمل، وتتكاملان في الأهداف التي تصب كلها في إغناء اللغة العربية. أما الجدال الذي أثير حول المسألة منذ عصر النهضة، ومازالت أصداؤه تصلنا إلى اليوم، كان مصدره كون المفكرين المترجمين عمليين في توجهاتهم إلى حد بعيد لأن همهم الوحيد هو ترجمة أكبر عدد ممكن من الكتب في شتى العلوم. انفتحوا على التعريب واستعانوا به لفك معضلات الترجمة دون أن يكون أبدا منهاجا متبعا في النقل. وفي آخر المطاف حُسم الجدال لصالح الترجمة التي ما فتئت تلجأ إلى التعريب لحل مشاكلها، دون أن يكون هذا الأخير هدفا من أهدافها الأساسية
كما ساهم في بناء هذا الوضع الثقافي الجديد ظهور الصحافة والترجمة الصحفية، عامل أدى إلى إحداث ثورة لغوية غير مسبوقة. كما أدى إلى ظهور النقد الأدبي والنقد الترجمي الذي عمل بدوره على إعادة الترجمة بين الشاميين والمصريين خصوصا في المجال الأدبي. إلا أن هذه النهضة الترجمية سرعان ما تم احتواؤها خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر مع ظهور الحركة السلفية التي دعت إلى الرجوع للأصول كحل أمثل للحفاظ على الهوية العربية الإسلامية، ومواجهة المد الثقافي الغربي الأوروبي، وبالتالي تصنيف الثقافة الترجمية في مجال ثانوي، والنهوض بالتأليف والتجديد في مواضيع مرتبطة ارتباطا وثيقا بثقافة السلف
ولقد خلُصنا من خلال كل هذه العوامل إلى أن التجربة الترجمية وما لعبته من دور في النسيج الفكري العربي الحديث كانت تجربة فريدة لكونها تمتاز بأصالتها الطموحة. إذ توفق المفكرون المترجمون في اختيار إطارهم العملي واستطاعوا إغناء الفكر العربي المعاصر متفادين في ذلك الانزلاق نحو التغريب أو نحو التشريق. ومع ذلك، لم يتمكنوا من إيجاد منزلة ملائمة بين المنزلتين نظرا لافتقار أطروحتهم لإطار نظري، إن على مستوى التأليف أو على مستوى الترجمة لدمج الإنتاج العلمي والأدبي والفلسفي الأوروبي لعصر الأنوار في الثقافة العربية الإسلامية. وهذا يجعلنا في الأخير نعتقد اعتقادا جازما أن إنجاز أي بحث في هذه المجالات الفكرية يتطلب من الباحث أن يأخذ بعين الاعتبار حدود دور الترجمة في النسيج الفكري العربي الإسلامي قديما وحديثا، والتي تتجلى أساسا في الرقابة التي فرضتها ثقافة السلف على النقل، وفي القيود التي مارستها الوساطة اللغوية على الترجمة، وفي تعامل المترجمين أنفسهم مع النصوص انطلاقا من قناعات سياسية تارة وإيديولوجية عقدية تارة أخرى. كل هذه العوامل ساهمت إلى حد كبير في خلق صراع ثقافي فكري بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافات التي جاورتها عن طريق الترجمة قديما وحديثا
:الأطروحة متاحة باللغة الإسبانية على الرابط التالي
https://www.tesisenred.net/handle/10803/671828#page=1
Join the Discussion!